تحدثت فى المقال السابق عن الصدق، وأوضحت أنه من أعظم الأخلاق النبيلة، وفى هذا المقال أتحدث عن نقيض الصدق وهو الكذب، وهو أن يخبر الإنسان بالشيء على خلاف ما هو عليه، والكذب على درجات، أشدها عقوبة وأعظمها ذنبا: الكذب على الله، كالتكلم في الدين بغير علم، أو القول على الله كذبا، ثم الكذب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو من أعظم الذنوب أيضا، ثم شهادة الزور، ثم اليمين الغموس، وهو الحلف كذبا بحصول شيء لم يحدث، ومن أنواع الكذب كذلك: اختلاق القصص بهدف إضحاك الناس، أو ملء الفراغ، وقول المرء: رأيت كذا وهو لم يره، أو لم أر كذا وقد رآه، وزعم رؤية شيء ما في المنام وهو لم يره.
والكذب فى عمومه غير جائز لا في الجد ولا في المزاح، وهو خلق مذموم كله، إلا إذا دعت الحاجة إليه، كالكذب على الأعداء أو للصلح بين المتخاصمين، وإن ترتب علي الكذب فساد أو ضرر فإن إثمه يكون عظيما، واعتياد الكذب عده العلماء من أكبر الكبائر.
ومما يجده الكاذب من عقوبة في الدنيا أن تنعدم راحته وأمنه، كما يقل شعوره بالطمأنينة، لأن الكذب اضطراب وشك وقلق وإزعاج، وسبب في عدم هدوء البال، كما أنه سبب في مرض القلب، فقلب الكاذب غير مطمئن ولا ساكن، والكذب سبب في محق البركة، ونقص الرزق، وابتعاد الملائكة عن الكاذب، وسبب أيضا في نفرة الناس من الكاذب وابتعادهم عنه، وبه يحرم العبد من الهداية، ويؤدي به إلى الفجور.
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في يوم عند عبد الله بن عامر، فنادته أمه – أي أم عبد الله – وقالت له: “هاكَ تَعالَ أُعطِيكَ شَيئًا”، فسألها رسول الله عن ذلك، فقالت له إنها تريد أن تعطيه تمراً، فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أمَا إنَّكِ لو لمْ تُعطِيه شَيئًا كُتِبَتْ عليكِ كِذبةٌ”، وفي هذا الحديث دليل على تربية الطفل على الصدق، حتى لا ينشأ على الكذب ويستسيغه.
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ”، وهذا للأسف مما عمت به البلوى فى عصر الإتترنت ومواقع التواصل التى صارت سببا فى التقاطع الاجتماعى بسبب تداول كل ما يقال دون تمحيص أو تدقيق فيما إذا كان القول صادقا أو كاذبا.
والكذب من صفات المنافقين، فهو سبب في الفسوق والعصيان، وعاقبته ليست هينة في الدنيا والآخرة، وإنه يهوي بصاحبه إلى النار، حتى إن كان الإنسان مازحا، فقد توعد النبي – صلى الله عليه وسلم – من يكذب ليضحك الناس بأشد الوعيد، حيث قال: “ويلٌ للَّذي يحدِّثُ فيَكذِبُ ليُضحِكَ بِه القومَ، ويلٌ لَه، ويلٌ لَهُ”. وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ الكذبَ يهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النارِ، وإنَّ الرجلَ ليكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتب عندَ اللهِ كذَّابًا”.
إذن الكذب من الأمور التي ينهانا عنها الإسلام وجميع الأديان السماوية، ومن الحكم التى قيلت في الكذب: اذا أخطأت فلا تجعل العذر كذبة مزخرفة، وليس لأحد ذاكرة قوية بما فيه الكفاية لكي تجعل منه كاذباً ناجحاً، ومن يكذب مرة، لا يدرك قدر الورطة التي أوقع نفسه فيها، إذ عليه أن يخترع عشرين كذبة أخرى للحفاظ على الكذبة الأولى، ومن يعتقدون أن الكذب الأبيض لا ضرر منه يصابون قريباً بعمى الألوان. وإن أفضل وأقصر طريق يكفل لك أن تعيش في هذه الدنيا موفور الكرامة، هو أن يكون ما تبطنه في نفسك كالذي يظهر منك للناس.