ابتسامة المبكى

الآن.. أنا أتجول ببصري ناحية الكتب التي تزخر بها مكتبة مدرسة راهبات فرنسسيكان بكفر عبده بالإسكندرية.

كانت المرة الأولى التي تخصص (ماسير سعاد) فيها حصة للقراءة الحرة، علمت فيما بعد، أن ذلك تم بناء على توجيه من الوزارة، لدعم مشروع مكتبة الأسرة والاحتفاء بمهرجان القراءة للجميع.

– كنت أقرأ في منزلنا محاكاة لأمي، والتي كانت عاشقة للقراءة، لكنني اليوم سأختار الكتاب الذي أود..

لحظات من التردد انتابتني، ولا أعرف لماذا أردت أن أمرر أصابعي على جميع الكتب الملقاة على الرفوف، ترى.. هل تختلف الأتربة التي تغلفها عن غيرها؟

– بالطبع لا، ما هذه السذاجة التي أفكر بها.. لماذا أردت أن أزيل الغبار بدلا من التفكير فيما سأقرأ؟

وقفت في مكاني للحظات، صامتة، أنا أمام كومة من الكتب الكثيرة والكثيرة جدا في مكتبة بدت وكأنها هجرت قبل عشرات الأعوام.

جلست مستندة إلى طاولة كبيرة كانت قد أعدت للقراءة، وهي الوحيدة التي هجرها الغبار قبل قليل، عندما قامت (دادة خديجة بتنظيفها) – بناء على طلب من الوكيلة.

وفجأة التفتت إليَّ (ماسير صباح) والتي أذكر أنني نادرا ما كنت أراها لا تحمل الكتب، ابتسمت ووضعت أمامي مجموعة قصصية بدت قديمة إلى حد ما، لكنها بحال جيدة مقارنة بغيرها..

– منال أنت رومانسية وهادئة جدا، هذه مناسبة لك.

– في خجل، تناولت الكتاب وأنا أجهل هل هذا رواية، أم شعر، أو قصص؟

عمري وقتها ثلاث عشرة سنة، وكان كل حظي يومها.. (مبكى العشاق.)

قرأت القصة الأولى، أسرعت. أسرعت أكثر. أكثر. كنت أحاول اختطاف السطور. إن الوقت يداهمني..

كيف سأترك كنزي هذا الذي حصلت عليه؟ لم أكن كبنات جيلي أقرأ القصص الرومانسية، أو ما يعرف بقصص الجيب، كنت أخجل وربما كنت أحب الظهور بمظهر الفتاة الناضجة التي لا تكترث لمثل تلك الأمور، لا أتذكر الآن، ولا يعنيني بالطبع التفسير عقب مرور كل هذا العمر.

انتهى الوقت المخصص للقراءة، فاتجهت إلى (ماسير صباح) أطلب إليها أن تسمح لي أن استكمل مجموعتي غدا في وقت (البريك).

لم أكن أعلم عن الاستعارة، فالمكتبة مغلقة ولم تفتح إلا بأوامر إدارية عليا، لذا لم يكن موجود من الأساس ما يعرف بنظام الاستعارة، ولكن الراهبة المحبة للقراءة، منحتني المجموعة، عقب وعد مني أن أعيدها بعد أيام ثلاثة، لم أصدق نفسي، كما أذكر أنني قبلتها وانصرفت أكاد أطير من الفرح.

ذهبت إلى المنزل وأخبرت أمي بما حدث، ثم جاء والدي فقصصت عليه، ليخبرني أن هذا الكاتب العظيم كان وزيرا للثقافة، وقص عليَّ واقعة اغتياله..

– هاا.. .! كيف قتل الرجل الذي كتب هذه الكلمات الجميلة؟

دقائق قليلة أجاب والدي فيها أسئلتي، قبل أن يعرب عن عدم ارتياحه لأن تقرأ ابنته في تلك السن الصغيرة ما يسمى (بمبكى العشاق) لم يخفِ ضيقه، وحاول أن يتحدث إلى والدتي بنظرات حاسمة، والتي همت بالقول:

– ممكن نبقى نقرأ حاجة تانية يا مامي، سيبها دي الوقت.

– على الفور تركتها بعد أن حصلت منها على (طرفة العين) المعتادة، وكانت تلك هي الإشارة المتبعة بيننا حال وجود والدي النادر بالمنزل.

ها قد نام الرجل أخيرا، وقرأت أنا “مبكى العشاق” بصحبة أمي حتى الساعات الأولى من الصباح.

استيقظت في ذلك اليوم، وقصدت مكتب (ماسير) في الدور الثالث بجوار المكتبة، رددت إليها منحتها، وطلبت المزيد..

بالفعل منحني هذا الملاك، أقاصيص الحب، والوفاء، والفقد، والحزن، والألم، والأمل على طاولة الشغف، وعلى مدار شهور كنا قد عقدنا ذلك الاتفاق، ستمنحني القصص التي أريد وستطلع على أعمال السنة الخاصة بي، فإن وجدتني قد تراجعت، ستغلق المكتبة في وجههي، ولم تسعَ إلى تحذيري إلا مرة واحدة، إذ حرصت على التفوق طوال العام الدراسي، كما طلبت إلى والدتي أن تحضر إليَّ بعض الروايات الأخرى التي حصلت على عناوينها من فهرس رواياته.

عندما انتقلت إلى المرحلة الثانوية، توجهت إلى المكتبة عقب أيام من الدراسة، وفي مدرستي الثانوية كان معمولا بنظام استعارة الكتب، فحصلت على (كارنيه أصدقاء المكتبة) وكنت أقرأ بشغف شديد، وربما هذه الحال لم تفارقني حتى الآن.

إن الكتب متاحة هنا بشكل أكبر، وبما أنني تمردت قليلا على الالتزام، وتخليت عن رابطة العنق وكذا طوق الشعر الأبيض، فيمكنني أن أضع رواية ليوسف السباعي أو إحسان أو توفيق الحكيم بين طيات كتاب الفيزياء دون أن يلحظ أستاذ إسحق هذا.

كان الرجل يتكلم عن كثافة وزمن ومسافة، وأنا أخترق كل هذا في ومضة تعانق فيها البطلة حبيبها، أو يعترف هو لها بمشاعره.

ما حاجتنا إذن إلى كل هذا الهراء، إن كان يمكننا الحصول على كل هذا الحب؟!

أنا لا أحب النظريات أو القوانين والمعادلات، سأقرأ فقط ما أود.

عند الامتحان الشهري الأول كانت درجاتي ضعيفة للغاية، بالكاد هي نسب النجاح، ولشعوري بالتقصير أمام أمي، تخليت عن تلك العادة في حصة الفيزياء.

لكن.. يمكنني أن أقرأ وليوسف السباعي فقط في حصة اللغة العربية، فأنا متفوقة فيها، كما أن تلك القصة المقررة أو النصوص التي يلقونها على مسامعنا، من الأفضل لي أن أبتعد عنها، كيلا أهجر القراءة إلى الأبد!

فعلت هذا، وأذكر أنني عندما حاولت التفاعل للمرة الأولى مع أستاذ إسحق ابتسم قائلا:

– هو أنت معانا هنا، أومال فين الروايات؟

لقد عرف الرجل الخمسيني ما كنت أفعله، ويبدو أنه مر جانبي ولم ألحظ ذلك، لكنه ابتسم عندما استشعر خجلي، وأجابني عن استفساري في لطف حاسم.

مرت السنوات الثقال بمرها وآلامها، وعدت ذات ليلة لأوقع عقد مجموعتي القصصية الثانية، كان ذلك – بالمصادفة- في نادي القصة، أجلسني أحد الأصدقاء في محبة شديدة خلف مكتب مؤسس النادي، وقبل أن أجلس نظرت إلى صورته للحظات، والتقطت بعض الصور، شعرت أنني لا أسجل لحظات توقيع العقد، بل ربما كنت أعتذر إلى نسبية الفيزياء التي هجرتها لأجل عينيه!

ففي لحظة توقف الزمن فيها أتيت إليه هنا والتقيته، وكانت صورتي إلى جواره، هو صاحب المبكى الذي ادخرت له ابتسامتي.

أضف تعليق