أيام في الزنزانة – 12

كان الحرمان من الخدمات، والذي تعانيه بلدتنا ينعكس على قدراتنا الدراسية في هذا الوقت المبكر.. لم تكن بيوتنا تعرف توصيل “الكهرباء” ولا “المياه” ومن ثم “الصرف الصحي”.. عشنا المعاناة بكل صورها المؤلمة، وقد عرفت في هذا الوقت كم المتاعب التي كانت تتعرض لها والدتي الراحلة، وقريباتي، من أجل توفير المياه النظيفة والصالحة للشرب، إذ كنا في فترة طفولتنا الأولى نحصل على احتياجاتنا من “المياه” من حنفية “بيت الزين” العمومية، والتي كانت على مقربة من نجع “أبو صيام”، حيث كانت تقيم عائلة والدي، وخاصة الأخوال “همام علي صيام ومنصور علي صيام وسرحان علي صيام “إضافة إلي “المرحوم عطالله صيام “والعمة المرحومة “حنيفة علي صيام”.. كنا في هذا العمر لا نجد مياها نظيفة للشرب أو الاستحمام، فكان اعتمادنا على “مصرب” مياه صغير، مجاور لأراضي وبيوت “آل صيام”، حيث كنا نتجمع، كمجموعة من الفتية من ذوي الأعمار المتقاربة، ونغطس في مياه “المصرب” لنغسل أجسادنا، وكنا كذلك نتوجه إلى حنفية “بيت الزين” العمومية، وبعد أن يحل الظلام، لنستحم من مياهها النظيفة.

وفي مرحلة لاحقة، كانت في قريتنا ثلاث حنفيات عمومية، توفر لنا المياه، واحدة قرب ديوان “بيت الشيخ” في وسط القرية، وأخري أمام بيت المرحوم “حسين نعيم” في مدخل البلدة، والثالثة أمام بيت “المرحوم دشيشة” قرب نهاية القرية في هذا الوقت، وقبل أن تتسع مبانيها، ويتمدد عمرانها.

كان من المعتاد أن نسوة البلدة يخرجن حاملات “البلاليص” لملئها بالمياه النظيفة، وكنا ونحن صغارا نشاهدهم في فترة “العصاري” وهن يتقدمن “جماعات” على مناطق تمركز الحنفيات العمومية، لتحصل كل واحدة على احتياجات أسرتها من “المياه”.

ومن المفارقات التي كنا نشاهدها ونحن صغار أن النساء كن يستخدمن “الجدول” والذي يحمل المياه من ساقية “آل عمار” إلي المزروعات لريها، لكي يغسلن أواني الطهو في مياهها، فيما كانت أخريات يذهبن إلى مياه ترعة الكلابية، الكائنة عند “سحارة المياه” علي شريط السكة الحديد ليقمن بنفس المهمة، ويضفن إليها غسيل الملابس المنزلية.

وإذا كان غياب المياه شكل واحدة من المعاناة الصعبة التي عشناها في هذا الزمان، فقد كان غياب الكهرباء، وعدم وصولها للقرية، سببا في معاناة شديدة، تعرضنا لها في تلك الأزمنة.

كانت قريتنا محصورة بين محاور طرق جبلية في هذا الوقت، سواء الطريق الموازي لشريط السكة الحديد، الذي يقع على بعد مئات الأمتار من قريتنا، والذي تمر فيه قطارات القاهرة-أسوان، وبالعكس، أو طريق سفاجا، المحاذي لقريتنا تماما.

فبالرغم من أهمية هذه المحاور المحيطة ببلدتنا، لكن أحدًا لم يكن يهتم بتوصيل الكهرباء إلى القرية، والتي تعد جزءًا طبيعيًا من “مدينة قنا” والتي لا تبعد عنها أكثر من ثلاثة كيلو مترات.

كان غياب الكهرباء، يصطدم بواقع صعب، فما أن يحل الظلام، حتى تخرج الزواحف والحشرات السامة من جحورها، لتنتشر بقوة في شوارع ومساكن البلدة، مستغلة حالة السواد الحالك في الشوارع الخارجية، فتهاجم العشرات ممن كانوا يفضلون الجلوس أمام “مصاطب” يقيمونها أمام بيوتهم للجلوس عليها مساء، هربا من حرارة البيوت في الداخل، وتكون النتيجة إصابة العديد من أهالي البلدة بلدغات العقارب والثعابين، فيستغيث المصاب لإنقاذه من “السم” الذي يتسلل إلى جسده، إلا أن ظروف الواقع الصعب لم تكن تسمح بوصول سيارات الإسعاف، فكان العلاج اليدوي هو الحل، حيث يعمل بعض المتابعين لمثل تلك الحالات من أبناء البلدة على محاصرة أماكن الإصابة، بسحب السم بأسنانهم من المصاب، ووضع رباط قوي على المكان المصاب بعد تشريطه بالموس، حتى يتم توفير وسيلة لنقله إلى مستشفى قنا العام للعلاج.

كانت النتيجة الطبيعية لهذه البدائية في العلاج أن الكثيرين ممن كانوا يصابون بلدغات العقارب والثعابين يلقون حتفهم بعد ساعات معدودة، حين يتسرب “السم” إلي أنحاء الجسد والذي يعجز عن المقاومة لعدم توافر العلاج المطلوب في الوقت المناسب.

وعلى ذات المنوال كان واقع الحال لمن يصاب في حادث، أو يتعرض لجروح لأسباب متباينة، إذ لقي العديد من شباب وأبناء البلدة مصرعهم لعدم توافر الإسعافات اللازمة في الوقت المناسب.

ووسط هذه المعاناة، رحت أنا وأقراني من تلاميذ المدرسة نستذكر دروسنا على “لمبة جاز” صغيرة، أو “لمبة نمرة 5” نجتهد خلال الليل لنراجع ما هو مطلوب منا من واجبات، ونذاكر قدر ما نستطيع علي الضوء الخافت لتلك الوسائل البدائية، لكن مشكلتنا كانت تتفاقم في مواسم الامتحانات، حيث نحتاج للمذاكرة بشكل مكثف، خاصة بالنسبة لطلاب الشهادات الدراسية “ابتدائي-إعدادي-ثانوي”.. وكنا لهذا الغرض نبحث عن كل السبل التي تساعدنا في التغلب على المشكلات التي تواجهنا في موسم الامتحانات، حيث كنا نلجأ في فترة ما بعد العصر للمذاكرة في منطقة “الغابة” المجاورة لقريتنا، ثم، وحين يحل الظلام نلجأ إلى أعمدة الإنارة العمومية، والتي كان تم البدء في تركيبها على الطريق الرئيسي ما بين قريتنا ومسجد سيدي عبد الرحيم القنائي، حيث كنا نقضي معظم ساعات الليل في المذاكرة تحت أضوائها، والتي سهلت علينا الكثير من المتاعب التي كنا نعانيها في تلك الفترة الصعبة.

وما بين الدراسة، وظروف الحياة القاسية التي كنا نعانيها، كانت الأوضاع الاجتماعية على الأرض تحمل في طياتها “عالما آخر” كنا نشعر فيه بالسعادة الغامرة، فعند ساعات الليل، نتجمع في مناطق قريتنا المختلفة، نمارس حياتنا الطفولية، نلعب سويا، العديد من الألعاب البسيطة، ونقيم المسابقات على مكاسب “وهمية” وكان من الألعاب التي نمارسها “لعبة الروح”، حيث كان يتم تقسيمنا إلي فرقتين، إحداهما تختفي في مكان ما من القرية، والأخرى تبحث عنها، ويعلن الفوز للفريق الذي ينجح في التخفي، أو الفريق الذي يستطيع اكتشاف مكان تخفيه.

كانت ألعابنا بسيطة، بقدر بساطة قريتنا، وأهلنا، وكان من الألعاب الشهيرة بيننا “لعبة النكيتة” وهي تعني وضع كميات من “النارخ” وهو عبارة عن طرح “البلح” وهو أخضر وصغير، حيث يتم وضعه في حفرة في التراب، ويتم تغطيتها، ومن خلال “سلاعة” نخيل الجريد يجري البحث عن “النارخ” المدفون في التراب، وكانت مكافأة من يفوز في اللعبة “عدة بلحات” يشعر حين استلامها بالنشوة لقدرته على إنجاز المطلوب، والفوز في المسابقة.

ومن الأشياء الجميلة في تلك الفترة، هو ما اعتدنا عليه منذ الصغر بالذهاب إلى “السيما القديمة” كما كنا نسميها كل يوم “خميس”.. كان اثنان من أقاربي، أحدهما “خالي” الراحل “أحمد سيد محمدين” والثاني “ابن عم والدتي” واسمه “نصاري الشاذلي محمدين” كانا كلاهما يصطحباننا كل يوم “خميس” لدخول السينما القديمة، والتي كانت كائنة في “ميدان الجبلاوي” الآن بمدينة قنا.. كان سعر تذكرة الدخول “ثلاثة قروش ونصف القرش” كنا “نحوش” المبلغ من الخميس، للخميس، وما أن يكتمل المبلغ لدينا حتى نذهب لمنظمي رحلة السينما لنبلغهم “يعملوا حسابنا” في الذهاب للسينما.

قبل التوجه للسينما “جماعة” كنا كمجموعة من “الفتيان” نجهز أنفسنا، بالاستحمام، ولبس أجمل ما لدينا، وكأننا في يوم عيد.. نتجمع عند “كوبري السحارة” من بعد صلاة العصر، وما أن يكتمل عدد المشاركين حتى ننطلق في موكب، يقوده “نصاري الشاذلي” وكأننا في رحلة “عمال تراحيل”، حيث كنا نحجز أماكننا لقطع التذاكر أمام السينما، ثم ندخل كمجموعة كبيرة إلى داخل السينما، لنحتل عشرات المقاعد المتجاورة، كأبناء بلدة واحدة.

في هذا الوقت، لم تكن قريتنا قد عرفت طريق التليفزيون بعد، ولذا كنا مشدوهين بالمشاهد التي كنا نتابعها على شاشة السينما، والتي كانت في معظمها من أفلام “الأكشن” الأمريكية، والتي كنا نعشق متابعتها علي الشاشة.. وأذكر في إحدى المرات، وبينما كنا نشاهد أحد الأفلام الأمريكية، إذ بمشهد سينمائي، لقطار تقترب عجلاته من الشاشة أكثر فأكثر، حتي ظن أحد الحضور معنا أن القطار سيخرج من الشاشة ليدهسه، فانقلب في حركة عشوائية، نتيجة للخوف، لنجده وقد أصبح في المقعد الخلفي، وهو ما أوقعنا جميعا في نوبة طويلة وعميقة من الضحك، رحنا نستذكرها، ونرويها لأقراننا كلما جاءت سيرة “السيما القديمة” خلال أحاديثنا المتبادلة.

كان “نصاري الشاذلي” من هواة جمع “نيجاتيف” الأفلام المستهلكة، والتي كانت تلقى خلف مبنى السينما.. كنا نستغرب من إصراره على ذلك، وحين كنا نسأله عن سبب حرصه على جمع “نيجاتيف” الأفلام، كان يرفض الإجابة، واستمر على هذا الحال حتى حدث شيء غريب منه.

فوجئنا به يوما يعلن عن عرض سينمائي خاص في حارة “الشيخ عسران” وهو مَقام لأحد أبناء البلدة، كائن بالقرب من منزل أسرتي في هذا الوقت، وكانت النساء تتبرك به، وتضيء له الشموع.. رحنا نسأل نصاري الشاذلي عن هذا العرض السينمائي، وكيفية الدخول للمشاهدة، وهل بتذاكر أم مجانا؟.. كانت المفاجأة أن من يريد الدخول للمشاهدة أن يقدم خمسة أغطية لزجاجات الكوكاكولا، وكان الغطاء يسمى “حق” بضم الحاء.. رحنا نجمع الغطيان المطلوبة من الشوارع، ونتنافس لنسبق بعضنا في حجز مكان في مقدمة العرض، كان هناك من ينظم الدخول، وبعد تسليم المطلوب ندخل في حارة ضيقة إلى خلف مَقام “الشيخ عسران”، حيث نجلس علي التراب، وحين اكتظ المكان بالحضور، راح “نصاري الشاذلي” يضع نيجاتيف الفيلم خلف “لمبة كهرباء” مليئة بالمياه، تعمل علي تكبير النيجاتيف، فتظهر الصور على الحائط ثابتة، وغير ناطقة.

رحنا نضحك من أعماقنا على هذا “المقلب” الذي عمله فينا “نصاري الشاذلي” واعتبرناه جانبا من الترفيه الذي نفتقده.

كانت كل الأشياء تسير في قريتنا وفقا للحظات حدوثها.. كانت تستهوينا جلسة “ساقية بيت عمار” في ساعة العصاري، حيث كنا نستمتع بصوتها، وهي تحمل “قواديس “المياه” وهي تخرج من بطن الساقية لتروي زراعات كل عائلة، أو مزارع لديه قطعة من الأرض، يتولي زراعتها وريها، ليقتات عليها، ويعيش هو وأسرته من خيراتها.. كانت كل عائلة، ممن لها الحق في استخدام الساقية، تأتي بالحيوانات التابعة لها “أبقار أوعجول”، لتدوِّر الساقية، وتقوم بمهمتها في ري الأراضي الزراعية، وفقا لنظام دقيق لتوزيع حصص الري، كان متعارف عليه بين أبناء “عائلة عمار”، وهو نظام استمر في العمل حتى تعرضت قريتنا لسيل عارم في العام 1996، غيَّر معالم القرية تماما، وطمس الساقية تحت الأنقاض التي دمرت أجزاء واسعة من القرية.

كان يحلو لنا، كفتيان، وأصدقاء، أن نتجمع عند الساقية في فترة ما بعد المغرب، لنلهو في مياهها وهي تغادر “القواديس” وتصب في الجدول الواسع، ثم تنقل المياه إلى الجداول الفرعية، لتروي المزارع المنتشرة في المناطق المتاخمة لها، حيث كانت أراضي “بيت موسي، وأولاد عامر جميعهم، وغيرهم، يستفيدون من مياه الساقية في ري أراضيهم”.

وخلال إحدى المرات، وبينما كنا نلهو معا، “أولادا وبنات” عند الساقية، إذ بجمال عباس رمضان، أحد شباب المنطقة، يضع رغوات صابون على وجه إحدى الفتيات، والتي راحت تصرخ بسبب تسرب الصابون لعينيها، وغياب الرؤية من أمامها، فسقطت في عين الساقية، وكادت تغرق في الساقية، لولا مسارعة بعض شباب البلدة لإنقاذها، سالمة.

“يتبع”

أضف تعليق