حياة بسيطة، تلك التي كنا نحياها في قرية فقيرة، وتفتقد إلى الحد الأدنى من الخدمات الضرورية، حتى أننا لم تكن لدينا مدافن خاصة لدفن موتانا، وأذكر يوم توفي جدي “بكري” في تلك المرحلة المبكرة من طفولتي، حمل أعمامي وأهل بلدتي جثمانه على أكتافهم، في مسافة تزيد على الثلاثة كيلو مترات، حيث كنا ندفن موتانا في المقابر المحيطة بمسجد سيدي عبد الرحيم القنائي في منطقة “النحال”، وأتذكر يومها شقيقي الأكبر “محمد” كان يمسك بـ”الكرب” الذي وضع فيه “الجثمان” مرتديا جلبابا “أسود” اللون، وهو يردد مع العائلة، ووفقا للطقوس التي كانت سائدة آنذاك “الدوام لله يا جدي.. في سبيل الله يا جدي”.. مشاهد عشتها بوجداني، حيث كان الحزن على الفراق يبلغ منتهاه في قريتنا والقرى المحيطة، وكان “العديد” واحدا من المأثورات الشعبية التي كنت أسعى لسماعها في الجنازات. فما بين تجهيز جثمان المرحوم جدي، ومراسم دفنه، ثم العودة مرة أخرى إلى مكان الجنازة في البيت المملوك لجدي، كانت المرحومة “زينب الباب” من أقارب جدي، وكانت تجاوزت الثمانين من عمرها، تقود “العديد” وسط أعداد غفيرة من النسوة من القرية، واللاتي جئن للجنازة، متشحات بالملابس السوداء، ومرتديات “الملاية السوداء” والتي تسمى “حبرة” في بلادنا بجنوب الصعيد.
كانت المرحومة “زينب الباب” وهي زوجة أحد أخوالي في عائلة “صيام” كانت بارعة في حفظ أبيات “العديد”، تقود النسوة في البلدة في لغة متناغمة، وأداء موحد.. يرددن جميعا “المأثورات الجنائزية” والتي تتخللها صرخات النسوة على المتوفى الذي رحل، تاركا أهله، في مشهد كان يشبه “الفاجعة” التي تحدث وتهز بنيان العائلة والقرية كلها.. ومن أمثلة مقاطع “العديد” التي مازالت تحملها ذاكرتي:
“يا بيتنا العالي وقع وانداس.. لما طلعوا الكبير وأعز الناس”.
“خلي الكبير على دكته نايم.. دا احنا الفرع وهو الأساس”.
كان مشهد الجنازة، وتكالب أهل البلدة، ومسارعتهم على المشاركة في الجنازة، تعبيرا عن الحزن الذي يصيب كافة أهالي البلدة، والذين لم يكن يتخلف منهم أحد “رجلا أو امرأة” عن المشاركة، ومواساة أهل الفقيد الراحل.
من المأثورات القديمة في قريتنا، أن “العديد” يتنوع حسب اللحظة، والحالة، والمكان، فهناك “عديد الغسل” ويجري قرب الميت حين يتم غسله، و”عديد الكفن” ويتم أثناء تجهيز الكفن، ولف الميت به، و”عديد القبر” ويكون بجوار المدفن، و”عديد النصبة” وهو القسم الأكبر من العديد، حيث تجلس النساء معا في بيت الميت، ويعددن، ويسمى بـ”المناحة” ويختلف عديد “النصبة” باختلاف سبب الوفاة، كما يختلف باختلاف جنس المتوفى، وعمره، وحالته الاجتماعية، إذ لا يسع المرأة حينما تسمع بخبر موت عزيز لديها، إلا أن تلطم خدودها، وتشق جيبها، وتدب على قلبها، وتهيل التراب على نفسها، وتضع الوحل على رأسها وصدرها، تعبيرا عن الفاجعة، و”الندب” غناء يصاحب لطم الخدود، والدب على القلوب، وقد تستمر “المندبة ” أيامًا بعد دفن الميت، وتشكل “الندابات” في هذه الحالة موكبا مؤثرا، يطوف أهم دروب القرية، وهي طقوس قديمة، تراجعت كثيرا الآن.
كنت صغيرا في السن حين رحل جدي “بكري”، ولكن ذاكرتي لاتزال تحمل تلك اللحظات الحزينة التي تشبع بها وجداني ونفسي، بعد أن تغلغلت بداخلي معاني الحزن العميق على الراحلين من أعزاء في عائلتي.
بعد دفن جدي، والعودة إلى القرية، رحت أجلس على “مصطبة” منزل جدي لأمي المرحوم “سيد محمدين عبد الله” والمجاور لمنزل جدي لأبي.. شدني وجذبني صوت “العديد” الذي كانت تقوده المرحومة “زينب الباب” ورحت أتأمل الكلمات التي ترددها، والتي كانت تبكيني من فرط تعبيراتها الحزينة، وتشبيهات الموت التي تصاحبها.
كانت وفاة جدي واحدة من المحطات الفارقة في حياتي، حيث جاءت وأنا في سن مبكرة من طفولتي، إذ وجدت نفسي فجأة في خضم مسئوليات “الرجال” الذين يتحملون تبعات مثل هذه “الواجبات” وترغمهم ظروف البيئة القروية، والعائلية على القيام بأدوار، هي أكبر من سنهم، واهتماماتهم.
حين توفي جدي، نصبت الجنازة لثلاثة أيام أمام بيته، بحسب طقوس البلدة في هذا الزمان، حيث لم يكن مسموحا بمغادرة النساء لواجب الجنازة إلا لأوقات وجيزة، إذ سرعان ما يعدن للمشاركة في الجنازة التي يخيم عليها الحزن طيلة الأيام الثلاثة، ناهيك عن تكرار المشهد الجنائزي كل يوم خميس، وحتى بلوغ المتوفي يوم “الأربعين” منذ وفاته، حيث كانت المقابر تكتظ بأسرة المتوفى وأقاربه، ويتم خلال المناسبة حمل “الكعك” الذي يعد خصيصا، ليوزع على الفقراء ورواد المقابر في المناسبة.
وفي مقابل ذلك، تقام مراسم العزاء في أحد “الدواوين” التابعة لعائلة المتوفى من جهة “الأب” وقد كان ديوان عائلة “المحافيض” هو المكان الذي أقيم فيه عزاء جدي “بكري” لمدة ثلاثة أيام متتالية، قبل أن تنفصل عائلتنا “صيام” وتقيم ديوانها المستقل في أحد أطراف بلدتنا “المعنى”.
وبحسب العادات والتقاليد كانت مراسم العزاء تبدأ من بعد صلاة العصر، حيث يتم فتح “الديوان” لاستقبال المعزين، وحتى إلى ما بعد صلاة العشاء في ذلك الوقت، حيث كان الظلام الدامس يخيم على البلدة، والتي لم تكن تعرف طريق دخول الكهرباء لها حتى هذا الوقت.. كانت طقوس العزاء تستوجب تجهيز عيلة المتوفى لوجبة العشاء لأهل المتوفى وقارئي القرآن الكريم والقائمين على الخدمات الأساسية بالديوان، والضيوف الذين يأتون من أماكن متباعدة.. كنا وفي فترة ما بعد صلاة المغرب نحمل “صواني الطعام” ونضعها في غرفة “المقرئ” حتى تحين اللحظة المناسبة لتناول طعام العشاء.
وكان من العادات الغريبة، والتي لايزال بعضها مستمرا حتى اليوم أن أقارب المتوفى ينقطعون عن العمل طيلة فترة أيام العزاء، ولايغادرون ديوان العزاء خلال تلك الأيام، ويخصصون جل وقتهم منذ الصباح الباكر لاستقبال المعزين، والذين يفدون من أماكن بعيدة، خارج القرية، وممن تربطهم علاقات مصاهرة ونسب بعائلة المتوفى.
عشت أيام العزاء في جدي “بكري” وماتلاها وسط كبار رجالات العائلة، وكذلك شقيقي “محمد”، حيث أدركنا منذ هذا الوقت حدود المسئوليات الملقاة على عاتقنا، في طريق طويل، رحنا نخوض غماره على مستوى العائلة في بداية الأمر، ثم صوب البلدة، وما تلاها من تطورات وأحداث واكبت مسيرتنا عبر عقود من الزمن.
(يتبع)