التبرع.. والتطوع

عمل الخير هو عمل تطوعي خالص لوجه الله سبحانه وتعالى لا يريد الإنسان منه جزاءً ولا شكورًا من بني البشر، ولكنْ يكاد يكون هؤلاء المتطوعون رسلًا وُهبوا للخير ولنفع البشرية وفقط، قلوب الخير تنفق من مالها سرًا وعلانية وتبذل من جهدها وراحتها وأموالها بما يساعدها على أداء رسالتها السامية، دون رياء أو تباهٍ أو فخر، هؤلاء اختصهم الله بقضاء حوائج الناس، ويالها من مكانة رفيعة.

عمل الخير ينبع من مشاعر إنسانية خالصة من نفوس محبة لهذا الصنيع ولا تنتظر منه مقابل.. وعلى مستوى الأفراد هناك مَن ينفقون من أموالهم ويحددون مَن يستحق ليختصوه بذلك، فلهم كل الحرية فى ذلك.. وعلى مستوى الجماعات نشطت فى مجتمعنا منذ سنوات جمعيات ومؤسسات أهلية تتبنى مشروعات علاجية وخدمية ورعاية اجتماعية، ولا شك أن تلك المؤسسات والجمعيات تلعب دورًا مساعدًا لما تقوم به المؤسسات الحكومية، ومنذ أن نشط العمل الأهلى فى مجتمعنا وتفاعل الناس مع تلك الحالة، فقاموا بتوجيه أموال زكواتهم وصدقاتهم وتبرعاتهم إليها ثقةً فى دورها وهدفها النبيل.

من بين تلك المؤسسات التى شهدت تعاطفًا كبيرًا، مستشفى سرطان الأطفال 75357 المسمى برقم الحساب الذي تدفقت عليه التبرعات من كل حدب وصوب.. «اتبرع ولو بجنيه» كان عنوان حملة التبرعات التى غلّفتها حالة حب وتعاطف غير مسبوقة فى تاريخ العمل الاجتماعي، باعتبار أن المستشفى يقوم بعلاج الأطفال المصابين بمرض السرطان.

تبنّت «علا غبور» فكرة إنشاء جمعية أصدقاء معهد الأورام، التي تحمل الآن اسم «جمعية أصدقاء المبادرة القومية ضد السرطان»، عام 1998.. ومع زيادة عدد المرضى -خاصة من الأطفال- تبنت وعدد من رجال الأعمال فكرة إنشاء مستشفى متخصص لعلاج أورام الأطفال، وقامتِ الحملة الإعلانية الضخمة في رمضان 1995، وكانت حملة ناجحة جدًا لمست قلوب المصريين لدعم الأطفال مرضى السرطان، حتى أن طوابير المتبرعين للمعهد كانت تغلق شارع قصر العيني وتصل إلى الكورنيش، وكانت نتيجة الحملة وصول التبرعات خلال رمضان فقط إلى 28.5 مليون جنيه، واستمر الإقبال لتصل التبرعات إلى 72 مليونًا خلال العام كله، بعد أن كانت لا تزيد على مليون فقط في العام، وبالفعل تم افتتاح المستشفى فى يوليو عام 2007.

واجه القائمون على المستشفى، وعلى رأسهم الدكتور شريف أبوالنجا (مدير المستشفى منذ إنشائه)، قبل سنوات، اتهامات بالفساد فى إدارة المنظومة.. وعلى الرغم من عدم التيقّن من حدوث هذه الأمور من عدمه وعدم الرد بشفافية على الاتهامات، وخاصة أن مَن أثار القضية هو الكاتب والسيناريست الراحل وحيد حامد، إلا أن التعتيم على ما أثير، أثّر بشدة على حجم التبرعات المتدفقة على حسابات المستشفى الذى يعالج الأطفال من مرضى السرطان من كل أنحاء الجمهورية دون تفرقة أو تمييز «وكان هذا شعار الصرح الطبي».. غير أن الحديث عن مرتبات طاقم الإدارة والمستشارين ونفقات الحملات الإعلانية، أثار تساؤلات فى عقول المتبرعين، فانفضّوا شيئًا فشيئًا عن العطاء.

الحق أقول إنني -ضمن كثيرين- كنت قبل سنوات أتبرع بما تيسر، قبل أن أصل إلى قناعة بضرورة إعطاء الصدقات والزكوات للمستحقين أولًا، على أن يكون التبرع لباقي الجمعيات فى المرتبة الثانية وبالطبع ليس منعه.. ولأننا كمصريين يحكمنا ضمير جمعي واحد، بدأت جذوة التعاطف فى الخفوت حتى قلّتِ التبرعات بنسبة 50% كما جاء على لسان مدير المستشفى، وكان من تداعيات ذلك أن تم إغلاق فرع المستشفى بطنطا، وبقي الفرع الرئيس يصارع البقاء بعد اضطرار إدارته لفك آخر وديعة، وأصبح الآن يواجه صعوبات بالغة فى استقبال مرضى جدد.

العمل التطوعي هو عمل نابع من الضمير الإنساني والقلوب الخيّرة، وحتى وإن كانت تبذل جهدًا فى التفرغ، وكان لزامًا أن تتقاضى أجورًا نظير ذلك، فيجب أن تكون تلك الأجور فى حدود المعقول، وألا تعتمد مصادر دخولهم بالكامل على مرتبات من تبرعات جاءت لغرض معين، ووثق المتبرعون بمن اؤتمن على تلك الأموال وبحسن إدارتها.

نتمنى أن يتوصل القائمون على ذلك الصرح الطبي إلى حل يتم فيه إعادة الثقة والاطمئنان إلى قلوب المتبرعين، وإنِ استدعى الأمر تغيير مجلس الأمناء، حتى لا نفقد فى غمضة عين عنوانًا للرحمة ونقاء القلوب.

أضف تعليق